الأسافين البريطانية الثلاثة لتفتيت الوحدة الإسلامية
الأسافين البريطانية الثلاثة لتفتيت الوحدة الإسلامية
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
ما من عاقل متبصر في هذا العصر إلا ويعلم أن الإسلام هو المستهدف من خلال الأحداث المختلفة التي تسمعون عنها، سواء منها ما قرب أو بعد، وأن الإسلام هو المستهدف من خلال الشعارات التي ترتفع، ومن خلال الشعارات التي تمرر من تحتها عمليات العدوان. ومن المعلوم لكل عاقل أيضاً أن السلاح الاستراتيجي - كما يقولون - الأول الذي يستعمل بادئ ذي بدء للقضاء على الإسلام إنما هو سلاح التفرقة، إنما هو سلاح تأليب المسلمين بعضهم على بعض، وقديماً في أواخر الخلافة العثمانية، تعلم الدنيا كلها أن بريطانيا لعبت الدور الأول في تجربة تفتيت المسلمين، وتحويلهم إلى فئات متصارعة بين يدي الهدف الأكبر، ألا وهو القضاء على خلافة الإسلام.
وأنا مضطر أن أضعكم في هذا الموقف أمام بعض الأسماء والوثائق:
من قرأ كتاب أعمدة الحكمة السبعة للورانس، يعلم جليَّ ما أقول، ويقف على كثير من الوثائق. بريطانيا هي التي خططت قبل غيرها للعمل على تفتيت المسلمين، وسخرت لذلك ثلاثة أسافين.
الإسفين الأول القاديانية: وهو إسفين غرسته بريطانيا في الهند وما حولها.
الإسفين الثاني البابية والبهائية: وقد غرسته بريطانيا في مصر وفي جهات من جنوب شرقي آسيا.
الإسفين الثالث الوهابية: وإنما غرسته بريطانيا في الجزيرة العربية عودوا إلى المصدر الذي ذكرته لكم، لتقفوا على الاعتراف الصريح والصارخ بهذا الأمر.
ووصلت بريطانيا إلى كثير مما ابتغت: قضي على الخلافة الجامعة والطوق الشامخ، ووضع السرطان الدائم في جسم العالم العربي والإسلامي متمثلاً في إسرائيل، ومزق العالم العربي والإسلامي بين هذه الأسافين الثلاثة التي حدثتكم عنها،لكن الإسلام لم يُقْضَ عليه.
واليوم بعد أن انهار المعسكر الشرقي، وتصورت الدولة الغربية الأولى في العالم أنها غدت القطب الأوحد الذي يستطيع أن يتحكم بالعالم؛ كما يشاء، خُيِّل إليها أن الوقت أصبح مناسباً لتوجيه الضربة القاضية إلى الإسلام، والوثائق كثيرة الناطقةُ بهذا الأمر الذي أقوله لكم.
ولكن ما السبيل الأول إلى ذلك؟ ما الخطوة الأولى؟ الخطوة الأولى تلك التي رسمتها بريطانيا، الخطوة الأولى أن تتلمذ هذه الدولة الكبرى التي تعد نفسها اليوم القطب الأوحد في العالم على بريطانيا، وأن تتلقى منها الدرس الأمثل لتفريق المسلمين ولتحويلهم إلى فئات لا مختلفة فقط؛ بل متصارعة أيضاً.
في ظل هذا الواقع يجري العمل صباح مساء، وبكل الوسائل، لا أقول للقضاء على الوحدة الإسلامية، وإنما أقول للقضاء على البقية الباقية من الوحدة الإسلامية. اليوم ينفخ نيران العمل على القضاء على الإسلام في الوهابية وفي الوسائل الأخرى التي حدثتكم عنها.
وقد ذكرت أكثر من مرة أن هنالك وثيقة صدرت من المجلس القومي الأمريكي عام 1991م ينص على ضرورة القضاء على الإسلام، ويضع الوسائل الكفيلة بذلك.
أولها: تأليب المسلمين بعضهم على بعض.
الوسيلة الثانية:استثارة أسباب التناقص ولو كانت وهمية في العقائد والمبادئ الإسلامية.
والوسيلة الثالثة: تحويل العمالة العربية الإسلامية في الخليج إلى عمالة آسيوية.
هذا شيء مقروء وشيء معروف، إذن أريد أن أقول لنفسي ولكل مسلم حذار من السلاح الأول الفتاك الذي يستعمل اليوم كما استعمل بالأمس للقضاء على وحدة هذه الأمة الإسلامية، واستثارة الفكر الوهابي ـ ولابدَّ أن أذكر الأشياء بأسمائها ـ واحد من أخطر هذه الأسلحة اليوم.
ولابدَّ أن أقول لكم: ليس المبتغى من وراء ذلك الانتصار لمذهب إسلامي ضد مذهب إسلامي، ليس المبتغى من وراء ذلك الانتصار للوهابية على غيرها، فلو تم ذلك لخسرت الدول الأوربية، أو لخسرت أمريكا الهدف الذي تبتغيه، هم أيضاً مسلمون. وليس الهدف أن تنتصر الفئات الأخرى على الوهابية، كذا. لا، الهدف أن يقضي الإسلام نفسه على نفسه، الهدف أن يحرق الإسلام ذاته، الهدف أن يتألب المسلمون بعضهم على بعض فيمحى الإسلام بواسطة المسلمين أنفسهم، هذا هو الهدف.
وهذا الأمر يجعلني أنبهكم إلى أن الطابور المسخر لتحقيق هذه التفرقة في العالم الإسلامي مكون مما يلي:
قلة قليلة جداً من المرتزقة والرؤوس العميلة المفكرة التي تتقاضى أموالاً لا تأكلها النيران هي التي تخطط، وهي التي ترسم.
ومن كثرة كاثرة من الرؤوس ذوي العقول الفجة، من الرؤوس ذوي العقول الجاهلة، سمعت بالدين ولم تدرك منه شيئاً، اهتاجت عواطفها الإسلامية، ولم تفسَّر أمام عاطفتها حقائق الدين بواسطة العلم أبداً، فجعلوا من أنفسهم جنوداً لتلك القلة العميلة التي تعلم ماذا تصنع، ومن الذي تخدم.
هذا هو الطابور، ومن هذين العنصرين يتألف.
ولعلكم إن أصغيتم السمع جيداً تلاحظون أو تسمعون كيف أن هذه الموجة عادت مرة أخرى إلى الظهور، عادت مرة أخرى إلى الاحتكاك، أنظر فأجد منشورات إن عن طريق الإنترنيت، أو الوسائل الأخرى، تنشر، ما مضمونها؟ هياج وهجوم من مسلمين على مسلمين، هياج من مسلمين ينتحلون الوهابية التي غرستها بريطانيا في الجزيرة العربية، يتهجمون على الآخرين، وينعتونهم بالكفر، ويخرجونهم من الملة، إلى آخر ذلك، أملاً في أن يستثير هذا الهياج الآخرين أيضاً، فيهتاجوا ويقوموا، ومن ثمَّ يقوم الصراع، ثم يتحول الصراع إلى أكثر من ذلك بين المسلمين أنفسهم. ومن ثم يتهيأ المناخ للخطوة الثانية، وللقضاء على البقية الباقية، من قوى الإسلام والمسلمين.
يجب أن أنبه نفسي وأنبهكم إلى هذه الحقيقة، ذلك لأننا مع الأسف لا نملك اليوم إلا سلاحاً واحداً، لم يبقَ في يدنا إلا سلاح واحد ألا وهو البقية الباقية من وحدة الشعور الإسلامي، أما القوى المادية فقد تبددت.
وأنتم تعلمون واقع أكثر الدول العربية والإسلامية، وأنتم تعلمون واقع أكثر من أكثر حكام الدول العربية والإسلامية، من حيث الاستسلام، ومن حيث السير وراء ما يراد لهم، لم يبقَ لنا أمل أيها الإخوة بالاعتماد على القوى المادية، وإنما اعتمادنا لا يزال قائماً على الإسلام ذاته، أي على القوة الجاذبة التي توحد المسلمين في الإسلام، تلك هي آمالنا الباقية المتمثلة في البقية الباقية من الوحدة الإسلامية التي تشعرون - ولله الحمد - بشبكتها الممتدة من أقصى الشرق الإسلامي إلى غربه، ومن أقصى شماله إلى جنوبه، هذه البقية الباقية الجزئية البسيطة هي التي تخوف الغرب اليوم، تخوف الغرب الأمريكي اليوم، ومن ثُمَّ تُجَنَّدُ وسائل الأمس لتمزيق المسلمين اليوم.
بلدتنا هذه ولله الحمد هي أكثر البلاد العربية الإسلامية بعداً عن هذه الفقاقيع التي تهدد الوحدة الإسلامية بالتمزق والتشرذم، ولعل مردّ ذلك إلى شيئين اثنين: وعي إسلامي تتميز به هذه البلدة، وإخلاص يسري في أفئدة المسلمين في هذه البلدة. ولكن مع ذلك ينبغي أن تعلموا أن هذه البلدة مستهدفة لهذا السبب، مستهدفة، ربما بحثتم فوجدتم عششاً تحاول أن تستثير عوامل الشقاق وأسباب الخلاف فيما بين المسلمين، بعضهم مع بعض، من أجل القضاء على هذه المزية التي يمتاز الإسلام بها في بلدتنا هذه، أيها الإخوة، فكونوا على حذر من ذلك..
كيف تكونون على حذر من ذلك؟ أعيدكم إلى وعيكم الإسلامي؟ كلكم يقرأ كتاب الله بتدبر، ألا تلاحظون الآيات الكثيرة التي يهيب بنا بيان الله عز وجل فيها إلى الاتحاد، إلى نبذ الفرقة والشقاق، إلىالابتعاد عن التنازع، إلى الاعتصام بحبل الله، إلى عدم التفرق، كلكم يقرأ، كلكم يقرأ قول الله عز وجل آية مشهورة كثيراً ما نجدها مرسومة على الجدران في البيوت وفي أماكن أخرى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران: 3/103] كلكم يقرأ قول الله عز وجل: (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 8/46] كلكم يقرأ قول الله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 3/105]. كلكم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبهنا إلى أن المسلمين إذا كانوا تحت مظلة كلمة سواء؛ وجاء من يريد أن يفرق أمرهم؛ فعليهم أن يضربوا عنقه أياً كان، وكائناً من كان، كل هذا لماذا؟
لينبهنا رسول الإسلام، ولينبهنا قبل ذلك كلام الله عز وجل إلى أن السلاح الأول الذي شرف الله عز وجل به عباده المسلمين إنما هو وحدتهم، إنما هو اعتصامهم بحبل الله.
حسناً، إذا عرفنا هذا، فكيف يمكن لمسلم وعى هذا الكلام أن ينقاد لمن يريد أن يفرق؟ رب قائل يقول: ولكن هؤلاء الذين يفرقون؛ باسم الإسلام يفرقون. أقول: نعم، والقاديانية التي غرستها بريطانيا في الهند، باسم الإسلام يفرقون، والبابية والبهائية التي تنتشر اليوم في أمريكا والتي يصطاد إليها المسلمون في أمريكا، باسم الإسلام يفرقون، والوهابية التي غرستها بريطانيا في الجزيرة العربية، باسم الإسلام يفرقون.
ولكن أحقٌ هذا الذي يستعملونه؟
الإسلام ممَّ يتكون أيها الإخوة؟ يتكون من مبادئ متفق عليها، يتكون بعد ذلك من سلوكات وشرائع متفق عليها، ثم يلي بعد ذلك أمور هي محل اجتهاد وخلاف، يدعونا الإسلام إلى أن نحكِّم سلم الأولويات في هذا القضاء، المبادئ الواحدة المتفق عليها لا تُمَس، الأحكامُ السلوكية المتفق عليها لا تُمَس، اليوم الأسلحة التي تستعمل لتفريق المسلمين بعضهم عن بعض، ما هي؟ أسلحة القضايا الجزئية الاجتهادية: هذه بدعة لا تفعلها، إذن أنت كافر إن فعلتها، والتصوف بدعة ما ينبغي أن تمارسوا هذا التصوف إذن أنت كافر إن جنحت إلى هذا السلوك. هذه هي الوسائل التي يتم بها تفريق المسلمين المسلم المخلص لربه الواعي لإسلامه لا ينقاد إلى هذا الأمر سواء سلك هذا السبيل أو هذا السبيل. الأمور الجزئية الاجتهادية نطويها، هكذا يقول لنا الله، هكذا يهيب بنا الإسلام، ريثما نجتاز هذا المنعطف، الذي يخيل إلى أمريكا فيه أن الوقت قد حان لتوجيه الضربة القاضية إلى الإسلام، الأمور المتفق عليها في عقائدنا معروفة، والأمور المتفق عليها في سلوكاتنا الإسلامية معروفة، وهذه الأمور هي سر جمع الباري عز وجل للمسلمين تحت مظلة كلمة سواء.
كيف يتم تفريق المسلمين اليوم؟ يتم تفريق المسلمين اليوم باستثارة أمور اجتهادية، كانت اجتهادية بالأمس، ولكن المسلمين لم يقاتل بعضهم بعضاً بسببها، بل مدَّت جسور التعاون والتآخي والإعذار فيما بينهم. أما اليوم فهذه الأسباب الاجتهادية ذاتها تُمْتَشَقُ لتصبح سكاكين، ولتصبح أسلحة لتمزيق الوحدة الإسلامية. نعم، نحن نقول: إسلامنا جامع، ولا يكون مفرقاً، وعندما نجد أن الأمة قد تفرقت باسم الإسلام فلنعلم أنه ليس الإسلام الذي ابتعث الله به رسله وأنبياءه وختم به بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
بالأمس وقع في يدي منشور، نُشِرَ وَوِزِّعَ في أنحاء من الخليج، مضمونه كله ثورة لاهبة، ضد من؟ لا ضد العدو المشترك الذي يخطط لتمزيقنا، ضد المسلمين، ضد جماعات إسلامية، إن نسائية أو غير نسائية، يقومون بما أمر الله بداقع من الحرقة على دين الله، بدافع من الإخلاص لله سبحانه وتعالى، كم وكم هدى الله عز وجل على أيديهم ضالين وتائهين، كم وكم جمع الله سبحانه وتعالى عن طريق دعوتهم شاردين وضائعين وملحدين ربما، هؤلاء الذين تتجه إليهم أسلحة العدوان، من الذي يجهل أنهم جنود هذا الطابور الذي حدثتكم عنه أيها الإخوة.
هذا الكلام الذي قلته أريد أن أنتهي منه إلى حصيلة: كونوا رقباء في أحيائكم وفي مدنكم وحيثما وجدتم على دين الله سبحانه وتعالى، لا يتسربنّ واحدٌ من أفراد هذا الطابور إلى وحدتكم الإسلامية ليمزقها، إياكم وإياهم. وأنا أعلم أن هنالك من يحاول، وهنالك من يفعل الوسائل المختلفة إن في الظلام أو في الضياء، إن في السر أو العلانية، لعله يصل إلى ما ابتغي منه، لعله يبيض وجهه أمام الذين أمروه وأمام الذين دفعوه.
ولكني أقول بعد هذا كله: المستعان هو الله، والاتكال على الله، وإني لأسأل الله عز وجل أن يجعل من أسرار شامنا هذه التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، أن يجعل من ذلك حصناً يقي هذه الأمة أسباب الفرقة وأسباب الشقاق، وأسأله سبحانه وتعالى أن يهب كلاً منا جذوة من نعمة الإخلاص لذاته العلية، ونعمة الإخلاص سر من أسرار الله يودعه الله في قلب من أحب من عباده. فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الذين أحببتهم حتى تهبنا هذه الجذوة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
أ.د. محمد سعيد رمضان البوطي